دعاء القنوت
بقلم الشيخ العلامة
"بكر بن عبد الله أبو زيد "
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله , والصلاة والسلام على رسول الله وعلى جميع صحابته ومن اهتدى بهداه.
أما بعد: فهذه تنبيهات مهمة على بعض ما يتعلَّق بدعاء القنوت في الوتر من أُمور كثُيَر السؤال عن بعضها, وانتشر بعض آخر, ولم نعرف له أَصلاً, فما رأيناه في الوارد, ولا سمعنا أَنه فيه,بعد التحري والاستقراء, وقَدْ دَعَتِ الحاجة إلى بيانها, لاسيما والقنوت عبادة جهرية,حين يدعوا الإمام جهراً, ويؤمَّن على دعائه المأمومون, فَيَتَلَقَّنها المأموم, والمتعين أَن يَتَوَارَثَ الناسُ هَدْيَ النبي صلى الله عليه وسلم في تَعَبُّدِهِم,ودُعَائِهم,وقُنُوْتِهِم,وَسَائِر ِ أَحوَالِهِم,فذلك أَزكى لهم,وأطيب, وأرجى لهم عند رَبِّهم وَمَعْبُوْدِهِم .
لِمَا ذُكِرَ اقتضى الحال التنبيه على أُمور منها ما هو خطأ والصواب خلافه, ومنها ما هو مفضول والأَفضل سواه,ومنها ما هو اعتداء في الدُعاء يأَباه الله,ورسوله, والمؤمنون. ثم نص دعاء القنوت,وضوابط الزيادة فيه شرعاً,ثم سياق بعض الأدعية الجامعة من القرآن والسنة,ليختار منها القانت قَدْراً لا يشق على المأمومين .
فإلى بيانها في فصول ثلاثة
الفصل الأولتنبيهات في بيان مَا يُجْتَنَب في القنوت
التنبيه الأَولإِنَّ التلحين,والتطريب,والتغني,والتقعر,والتمطيط في أَدَاءِ الدُّعاءِ, مُنْكَرٌ عَظِيم , يُنَافِيْ الضَّرَاعَة , والابْتِهَال , والعُبُوديَّةَ , وداعِيةٌ للرياء , والإِعجاب , وتكثير جمع المعجبين به وقد أَنكرَ أَهل العلم على من يفعل ذلك في القديم,والحديث.
فعَلَى مَنْ وَفَّقهُ الله تعالى وصَارَ إِماماً للناسِ في الصلوات,وقنتَ في الوترِ ,أَن يجتهدَ في تصحيح النية,وأَن يُلْقِيَ الدُّعاء بصوته المعتاد,بضراعة وابتهال,مُتَخَلَّصاً مِمَّا ذُكِرَ,مجتنباً هذه التكلفات الصارفة لقلبه عن التعلُّق بربه.
التنبيه الثانييُجْتَنَبُ جَلْبُ أّدعية مخترعة , لا أَصل لها , فيها إِغراب في صيغتها وسجعها , وتكلفها حَتَّى إِنَّ الإمام ليتكلف حفظها , ويَتَصَيَّدهَا تَصَيُّداً , ولذا يَكثُرُ غلطه في إِلقائها, ومع ذلك تراه يتلزمها ,ويتخذها شعاراً ,وكأَنما أَحيا سُنَّة هجرتها الأُمَّة.
التنبيه الثالثيُجْتَنَبُ التزام أَدعية وردت في روايات لا تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم,لأَن في سندِها كَذَّاباً,أَو متَّهماً بالكذب أَو ضعيفاً لاَيُقْبَلُ حديثه,وهكذا.
ومنها حديث فُرَاتٍ عن علي رضي الله عنه قال :قال لي علي (( ألا يقوم أحد فيصلي أَربع ركعات,فَهَدَيْتَ فَلَكَ الحَمْدُ ,عَظُمَ حِلْمُكَ فَعَفَوْتَ فَلَكَ الحَمْدُ ... إلى قوله: وَلاَ يَبْلُغُ مِدْحَتَكَ قَوْلُ قَائِلٍ )). رواه أَبو يعلى بسند ضعيف,لأَن فيه عدة علل,منها أَن فُرَاتَ بن سلمان لَمْ يَلْقَ علياً رضي الله عنه فهو منقطع الإِسناد .
ومع ذلك تَسْمَعُ من يُجْهدُ نَفْسَهُ بهذا الذكر ,فَيَغْلَطٌ فيه,ثُمَّ يَغْلَط,فهو في مجاهدة مع ذاكرته حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ, ولو أَخذ بالصحيح الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو ذكر مبارك سهل ميسور,لكان أَبَرَّ وأبْرَّك وأَقربَ للإِجابة,وتأسِّياً بالنبي صلى الله عليه وسلم بما دعا به رَبَّه سبحانه .
ومنها:ما يُروى عن أنس مرفوعاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم مَرَّ بأعرابي وهو يدعو في صلاته وهو يقول : (( يا من لا تراه العيون ,ولا تخالطه الظنون ... الحديث )) أخرجه الطبراني في ((الأوسط)) بسند فرد من لا يُعرف,وهو شيخ الطبراني,وتدليس أحد رواته,مع ثقته.
ومنها ما يُروى من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال (( نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم حتى ذكر كلمات من كنوز العرش ,وهي: (( يا من أظهر الجميل وستر القبيح,يا من لا يؤاخذ بالجريرة ... إلى قوله :أسألك يا الله أن لا تشوي خلقي بالنار )) رواه الحاكم في المستدرك وقال :صحيح الإسناد ,فإن رواته كلهم مدنيون ثقات )).
وقد تعقبه الحافظ الذهبي في ترجمة:أحمد بن داود الصنعاني في الميزان: (( الميزان :1/136 )) فقال(أتى بخبر لا يُحتمل ,ثم ذكره))ثم علق على قول الحاكم المذكور(قال الحاكم:صحيح الإسناد .قلت:كلا.
قال:فرواته كلهم مدنيون.قلت:كلا.
قال:ثقات:قلت:أنا أتهم به أحمد.
وأما أفلح بن كثير,فذكره ابن أبي حاتم,ولم يتكلم عنه بشيء))انتهى.
وفيه أيضاً عنعنة ابن جريج,وهو مدلس.
فانظر نعوذ بالله من الخذلان كيف يتعلق الداعي بحديث هذه منزلته,ويهجر الدعاء بآيات القرآن العظيم,وما يثبت في الصحيحين وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنها:التزام ما ورد بسند فيه واهي الحديث ,فلا يصح ومنه((اللهم لا تدع لنا ذنباً إِلا غفرته,وَلاَ هماً إِلاَّ فَرَّجْتَه,ولا ديناً إِلاَّ قَضَيْتَه,ولا حاجة من حوائج الدُّنيا والآخرة إلا قضيتها برحمتك يا أَرحم الراحمين )). وهو دعاء حسن لا يظهر فيه محذور.
لكن يحصل الغلط من جهات هي:هجر الصحيح,والتزام ما لم يصح,والزيادة فيه بلفظ محتمل,وهو(في مقامنا هذا)) فيحتمل أن يكون شرطاً على الله فهو باطل,ثم الزيادة بسجعات أضعافها.
وهكذا من تتابع سجع متكلَّف,ودعاء مخترع لبعض المستجدات حتى قاربت العشرين على هذا الرَّوي,والنمط.
التنبيه الرابعوَيُجْتَنَبُ قَصْدُ السَّجع في الدعاء,والبحث عن غرائب الأَدعية المسجوعة على حرف واحد.
وقد ثبت في(صحيح البخاري)) رحمه الله تعالى عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال له(فانظر السجع في الدعاء,فاجتنبه,فإني عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأَصحابه,لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب)).
ومن الأَدعية المخترعة المسجوعة( اللهم ارحمنا فوق الأرض,وارحمنا تحت الأرض,وارحمنا يوم العرض)).
ولا يرد على ذلك ما جاء في بعض الأدعية النبوية من أَلْفَاظ مُتَوَاليَة,فهي غير مقصودة,ولا متكلفة,ولهذا فهي في غاية الانسجام.
التنبيه الخامسوَيُجْتَنَبُ اختراع أَدعية,فيها تفصيل أَو تشقيق في العبارة,لِمَا تُحْدِثُهُ مِنْ تحريك العواطف,وإِزعاج الأَعضاء,والبكاء,والشهيق,والضجيج,والصَّعَق,إِ لى غير ذلك مِمَّا يَحْدُثُ لِبَعْضِ النَّاسِ حَسَبَ أَحوالهم,وقُدُرَاتِهِم,وطاقاتهم,قُوَّةً,وَضَع ْفاً.
ومن:تضمين الاستعاذة بالله من عذاب القبر,ومن أَهوال يوم القيامة,أَوصافاً وتفصيلات,ورَصَّ كلمات مترادفات,يُخْرجُ عن مقصود الاستعاذة,والدُّعاء,إِلى الوعظ,والتخويف,والترهيب.
وكل هذا خروج عن حدِّ المشروع,واعتداء على الدعاء المشروع,وهجر له, واستدراك عليه,وأَخشى أَن تكون ظاهرة ملل,وربما كان له حكم الكلام المتعمد غير المشروع في الصلاة فيُبْطِلُها.
التنبيه السادسوَيُجْتَنَبُ التطويل بما يشق على المأمومين,ويزيد أَضعافاً على الدعاء الوارد,فيحصل من المشقة,واستنكار القلوب,وفُتُوْرِ المأمومين,مما يؤدِّي إلى خطر عظيم,يُخْشى على الإمام أَن يلحقه منه إِثم.
وقد اختلفت الرواية عن الإمام أَحمد رحمه الله تعالى في مقدار القنوت في الوتر على ثلاث روايات:
1- بقدر سورةإذا السماء انشقت).
2- بقدر دعاء عمر رضي الله عنه ويأتي.
3- كيف شاء.
لكن إذا كان القانت إماماً فلا يختلفون في منع التطويل الذي يشق بالمأمومين.
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ رضي الله عنه لما أَطال في صلاة الفرضية(أفتانٌ أنت يا معاذ؟)) فكيف في هذه الحال!
التنبيه السابعوَيُجْتَنَبُ إيراد أدعية تَخْرُجُ مَخْرَجَ الدُّعاء,لكن فيها إِدْلاَلٌ على الله تعالى حتى إِنَّك لتسمع بعضهم في أول ليلة من رمضان يدعو قائلاً(اللهم تقبل منا صيامنا وقيامنا)) وقد يدعو بذلك في آخر رمضان,ولا يقرنه بقوله(وتجاوز عن تقصيرنا,وتفريطنا)).
التنبيه الثامنوَيُتْرَكُ زيادة أَلفاظ لا حاجة إليها,
في مثل قول الدَّاعي((اللهم انصر المجاهدين في سبيلك)) فيزيد(في كل مكان)) أو يزيد( فوق كل أرض وتحت كل سماء)) ونحو ذلك من زيادة أَلفاظٍ لا محل لها,بل بعضها قد يحتمل معنى مرفوضاً شرعاً.
ومن الأَلفاظ المولَّدة لفظة(الشَّعْب)) في الدُّعاء المخترع(واجعلهم رحمة لشعوبهم....)).
وهو من إِطلاقات اليهود من أنهم (شعب الله المختار)).
ولا يلتبس عليك هذا بلفظ (الشعب)) في باب النسب, فلكل منهما مقام معلوم لغة.
ومن الدعاء بأساليب الصحافة والإعلام,قول بعض الداعين للأمة الإسلامية (وهي تَرْفُلُ في ثوب الصحة والعافية)) فمادة(رَفَلَ)) مدارها على التبختر,والخيلاء,كما في الحديث المرفوع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال( مثل الرافلة في الزينة في غير أهلها كمثل ظلمة يوم القيامة لا نور لها )) رواه الترمذي . الرافلة:أي: المتبخترة.
فانظر كيف يحصل الدعاء بأن تقابل النعمة بالمعصية.
وهكذا يفعل التجاوز للسُّنن,وهجر التفتيش بكتب العرب.
التنبيه التاسعولا يأتي الإِمام بأَدعية ليس لها صفة العموم,بل تكون خاصة بحال ضُرًّ,أَو نُصْرَةٍ,ونحو ذلك.
ومنه الدُّعاء بدعاء نبي الله موسى عليه السلام في سورة طه:25/35 إلى قوله: ((وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي)) إلى آخر الآيات.
ومنه:دعاء الإِمام بمن معه: ((اللهم أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا,وَتَوَفَّنَا إِذا كانت الوفاة خيراً لنا)).
لما ثبت في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه قال,قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يَتَمَنَّيَنَّ أحدكم الموت من ضُرًّ أَصابه,فإن كان لابد فاعلاً,فليقل: ((اللهم أَحيني...)) الحديث.
وعليه ترجم لنووي رحمه الله تعالى في ((الأَذكار)) بقوله: ((باب كراهية تمني الموت لضر نزل بالإِنسان وجوازه إذا خاف فتنة في دينه)).
وما ورد بنحوه مطلقاً,محمول على هذا المقيد.
التنبيه العاشرليس من حق الإِمام أَن يُرَاغِمَ المأمومين , ولا أن يُضَارَّهم بوقوف طويل يشق عليهم,ويُؤمَّنُوْنَ مَعَهُ على دعاء مخترع لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أَو يكونوا في شك من مشروعيته,وبينما هو في حال التغريد والانبساط فهم في غاية التحرج والانزعاج.
ولو سمع بعض الأَئمة ما يكون من بعض المأمومين بعد السلام من تألم , وشكوى من التطويل , وأَدعية يؤمن عليها ولا يعرفها , وتستنكرها القلوب ,لرجع إِلى السنة من فوره.
فيجب على من وفقه الله وأمَّ الناس في الصلاة. أَن يتقيد بالسنة,وأَن لأّ يُوَظَّفَ مزاجه,واجتهاداته مع قصور أَهليته,وأَن يستحضر رهبة الموقف من أنه بين يدي الله تعالى وفي مناجاته,وأَنه في مقام القُدْوةِ,وَتَلَقُّن المسلمين للقنوت المشروع,ونشره,وتوارثهم له.
ومن اسْتَحْضَرَ هذه المعاني في قلبه , لم يقع في شيء من ذلك , نسال الله سبحانه البصيرة في دينه , وأَن لا يجعله ملتبساً علينا فَنَضِل.
كما يجب على المأموم إِحسان الظن بإِمامه في الصلاة,وأَن يتحلى بالتحمل , وأَن لا يبادر إِلى الاستنكار إِلاَّ بعد التأكد من أَهل العلم الهداة , ومن ثم يكون تبادل النصيحة بالرفق واللين , والبعد كل البعد عن الشنيع , وإلحاق الأَذى به , وَمَنْ فَعَلَ فقد احتمل إِثْماً.
ولقد لوحظ أن بعض المأمومين لا يتابع الإِمام برفع اليدين للدعاء والتأمين,وهذه مشاقة وحرمان.